الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن القرامطة واستبداد أمرهم وما استقر لهم من الدولة بالبحرين وأخبارها إلى حين انقراضها. هذه الدعوة لم يظهرها أحد من أهل نسب العلوية ولا الطالبيين وإنما قام بها دعاة المهدي من أهل البيت على اختلاف منهم في تعيين هذا المهدي كما نذكره وكان مدار دعوتهم على رجلين أحدهما يسمى الفرج بن عثمان القاشاني من دعاة المهدي ويسمى أيضا كرويه بن مهدويه وهو الذي انتهى إليه دعاتهم بسواد الكوفة ثم بالعراق والشام ولم يتم لهؤلاء دولة والآخر يسمى أبا سعيد الحسن بن بهرام الجنابي كانت دعوته بالبحرين واستقرت له هنالك دولة ولبنيه وانتسب بعض مزاعمهم إلى دعاة الإسماعيلية الذين كانوا بالقيروان كما نذكره ودعوى هؤلاء القرامطة في غاية الاضطراب مختلة العقائد والقواعد منافية للشرائع والإسلام في الكثير من مزاعمهم وأول من قام بها بسواد الكوفة سنة ثمان وسبعين ومائتين رجل أظهر الزهد والتقشف وزعم أنه يدعو إلى المهدي وأن الصلوات المفروضة خمسون كل يوم واستجاب له جمع كثير ولقب قرمط وأصلها بالكاف وكان يأخذ من كل من يجيب دعوته دينارا للإمام وجعل عليهم نقباء وسماهم الحواريين وشغل الناس بذلك عن شؤنهم وحبسه عامل الناحية ففر من محبسه ولم يوقف له على خبر فازداد أتباعه فتنة فيه ثم زعم أنه الذي بشر به أحمد بن محمد بن الحنفية وأن أحمد نبي وفشا هذا المذهب في السواد وقرئ بينهم كتاب زعموا أنه جاءهم من داعيه المهدي نصه بعد البسملة يقول الفرج بن عثمان: الحمد لله بكلمته وتعالى باسمه المنجد لأوليائه بأوليائه قل إن الأهلة مواقيت للناس ظاهرها لتعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب وأنا الذي لا أسأل عما أفعل وأنا العليم الحكيم وأنا الذي أبلو عبادي وأستخبر خلقي فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنتي وأخلدته في نعمتي ومن زال عن أمري وكذب رسلي أخلدته مهانا في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي فأنا الذي لا يتكبر علي جبار إلا وضعته ولا عزيز إلا ذللته فليس الذي أصر على أمره ودام على جهالته وقال لن نبرح عليه عاكفين وبه مؤمنين أولئك هم الكافرون ثم يركع ويقول في ركوعه مرتين سبحان ربي ورب العزة تعالى عما يصف الظالمون وفي سجوده الله أعلى مرتين الله أعظم مرة والصوم مشروع يوم المهرجان والنيروز والنبيذ حرام والخمر حلال والغسل من الجنابة كالوضوء ولا يوكل ذو ناب ولا ذو مخلب ومن خالف وحارب وجب قتله ومن لم يحارب أخذت منه الجزية انتهى إلى غير ذلك من دعاوي شنيعة متعارضة يهدم بعضها بعضا وشاهد عليهم بالكذب والذي حملهم على ذلك إنما هو ما اشتهر بين الشيعة من أمر المهدي مستندين فيه إلى الأحاديث التي خرجها بعضهم وقد أريناك عللها في مقدمة الكتاب في باب الفاطمي فلهجوا به وبالدعوة إليه فمن الصادق فيمن يعينه وإن كان كاذبا في استحقاقه ومنهم من بنى أمره على الكذب والانتحال عساه يستولي بذلك على حظ من الدنيا ينال بها صففة وقد يقال إن ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج وإنه سار على الأمان وقال له: إن ورائي مائة ألف سيف فناظرني لعلنا نتفق ونتعاون ثم اختلفا وانصرف قرمط عنه وكان يسمي نفسه القائم بالحق وزعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج ثم زحف إليه أحمد بن محمد الطائي صاحب الكوفة في العساكر فأوقع بهم وفتك بهم وتتابعت للعساكر في السواد في طلبهم وأبادوهم وفر هو إلى أحياء العرب فلم يجبه أحد منهم فاختفى في القفر في جب بناه واتخذه لذلك وجعل عليه باب حديد واتخذ بجانبه تنورا سحرا إن أرهقه الطلب فلا يفطن له ولما اختفى في الجب بعث أولاده في كاب بن دبرة بأنهم من ولد إسمعيل الإمام مستجيرون بهم ثم دعوا إلى دعوتهم أثناء ذلك وكانوا ثلاثة يحيى وحسين وعلي فلم يجبهم أحد إلى ذلك إلا بنو القليص بن ضمضم بن علي بن جناب فبايعوا ليحيى على أنه يحيى ابن عبد الله بن محمد بن إسمعيل الإمام وكنوه أبا القاسم ولقبوه الشيخ ثم حول اسمه وادعى أنه محمد بن عبد الله وأنه كان يكتم هنا الاسم وأن ناقته التي يركبها مأمورة ومن تبعها منصور فزحف إليه سبك مولى المعتضد في العساكر فهزمها وقتل فسار إليه محمد بن أحمد الطائي في العساكر فانهزمت القرامطة وجيء ببعضهم أسيرا فاحتضره المعتضد وقال: هل تزعمون أن روح الله وأنبيائه تحل فيكم فتعصمكم من الزلل وتوفقكم لصالح العمل فقال له: يا هذا أرأيت لو حلت روح إبليس فما ينفعك فاترك مالا يعنيك إن ما يعنيك فقال له: قل فيما يعنيني! فقال له: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوكم العباس حي نم يطلب هذا الأمر ولا بايعه أحد ثم قبض أبو بكر واستخلف عمر وهو يرى العباس ولم يعهد إليه عمر ولا جعله من أهل الشورى وكانوا ستة وفيهم الأقرب والأبعد وهذا إجماع منهم على دفع جدك عنها فبماذا تستحقون أنتم الخلافة؟ فأمر المعتضد به فعذب وخلعت عظامه ثم قطع مرتين ثم قتل ثم زحف القرامطة إلى دمشق وعليها طفج مولى ابن طولون سنة تسعين واستصرخ بابن سيده بمصر فجاءت العساكر لإمداده فقاتلهم مرارا وقتل يحيى بن ذكرويه المسمى بالشيخ في خلق من أصحابه واجتمع فأمهم على أخيه الحسين وتسمى أحمد أبا العباس وكانت في وجهه شامة يزعم أنها مقدسة فلقب صاحب الشامة المهدي أمير المؤمنين وأتاه ابن عمه عيسى بن مهدي وهو عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسمعيل الإمام ولقبه المدثر وعهد إليه وزعم أنه المذكور في القرآن ولقب غلاما من أهله المطوق ثم دعا الناس فأجابه كثير من أهل البوادي وسار إلى دمشق فحاصرها حتى صالحوه على مال ودفعوه له ثم سارا إلى حمص وحماة والمعرة وبعلبك فخطب له بها واستباحها جميعا ثم إلى سلمية وبها جماعة من بني هاشم فاستلحمهم حتى الصبيان بالمكاتب والبهائم ثم خرج المكتفي إليه وقدم عساكره فكبسهم ونجا فلهم إن حلب وانتهى المكتفي إلى الرقة وقد سار بدر مولى ابن طولون في اتباع القرامطة فهزمهم وأثخن فيهم وبعث المكتفي العساكر مع يحيى بن سليمان الكاتب وفيهم الحسين بن حمدان من بني تغلب ومعهم بنو شيبان فواقعوا القرامطة سنة إحدى وتسعين فهزموهم وقتل منهم خلق من أصحاب القرمطي ونجا ابنه أبو القاسم ببعض ذخيرته وسار هو مستخفيا إلى ناحية الكوفة ومعه المدثر والمطوق وغلام له وانتهوا إلى الرحبة فوشى بهم إلى العامل فقبض عليهم وبعث بهم إلى المكتفي بالرقة ورجع إلى بغداد فقطعهم بعد أن ضرب صاحب الشامة مائتي سوط وأما علي بن ذكرويه ففر بعد مقتل أخيه يحيى على دمشق إلى ناحية الفرات واجتمع إليه فل من القرامطة فاستباح طبربة ثم لما اتبعهم الحسين بن حمدان فر إلى اليمن واجتمع إليه دعاتهم هنالك وتغلب على كثير من مدنه وقصد صنعاء فهرب عنها ابن يعفر فاستباحها وتجافى عن صعدة لذمة العلوية بينه وبين بني الرسى ونازل بني زياد بن بيد ومات في نواحي اليمن وفي خلال ذلك بعث أبوه ذكرويه إلى بني القليص بعد أن كانوا استكانوا وأقاموا بالسماوة فبعث إليهم من أصحابه عبد الله بن سعيد ويسمى أبا غانم فجاءهم بكتابه سنة ثلاث وتسعين بأنه أوحى إليه بأن صاحب الشامة وأخاه الشيخ مقبلان وأن إمامه يظهر من بعدهما ويملأ الأرض عدلا ويظهر وطاب أبو غانم على إحياء كلب فاجتمع إليه جماعة منهم وقصد الشام فاستباح بصرى وأذرعات ونازل دمشق وعاملها يومئذ أحمد بن كيغلع وهو غائب بمصر في محاربة الجليجي الثائر من شيعة بني طولون على عساكر المكتفي وقابله خلفاؤه فهزمهم وقتل بعضهم وسار إلى الأردن فقتل عاملها ونهب طبرية وبعث المكتفي الحسين بن حمدان في العساكر ففر أبو غانم إلى السماوة وغور مياهها واتبعته العساكر إلى أن جهدهم العطش ثم رجع الحسين بهم إلى الرحبة وقيل إنهم تقبضوا على أبي غانم وقتلوه وافترق جمعهم وذلك سنة ثلاث وتسعين.
|